ترامب- سياسة "أمريكا أولاً" وفوضى عالمية متصاعدة

المؤلف: د. أحمد كورو09.15.2025
ترامب- سياسة "أمريكا أولاً" وفوضى عالمية متصاعدة

الخلاف الظاهر بين الرئيس الأميركي السابق، دونالد ترامب، ونظيره الأوكراني، فولوديمير زيلينسكي، لم يكن وليد الصدفة في دهاليز المكتب البيضاوي، بل كان مشهدًا مُتقنًا، يهدف إلى تجسيد معالم السياسة الخارجية التي ينوي ترامب تبنّيها خلال ولايته الرئاسية المُقبلة، وخاصة أمام أعين النُخبة الجمهورية.

العزلة أم العولمة؟

الصراع بين الانعزالية والعولمة يُمثل معضلة تاريخية في السياسة الخارجية الأميركية، تعود جذورها إلى ما يزيد عن قرن. وتجسدت النزعة العولمية في أبهى صورها في "المبادئ الأربعة عشر" التي أعلنها الرئيس وودرو ويلسون في عام 1918، والتي رسمت ملامح نظام عالمي جديد ما بعد الحرب العالمية الأولى. وقد اقترح ويلسون إنشاء "عصبة الأمم"، ولكن مجلس الشيوخ الأميركي رفض بشدة الانضمام إلى هذه المنظمة الوليدة، مما يعكس توجّهاً أميركياً راسخاً نحو الانزواء والانعزال.

لدى الولايات المتحدة مبرراتها التي تدفعها نحو الانسحاب من المعترك الدولي، أبرزها موقعها الجغرافي المتميز؛ حيث تحيط بها المحيطات الشاسعة من كل جانب، ولا تجاورها سوى دولتان، هما كندا والمكسيك؛ مما يمنحها حصانة ذاتية فريدة. هذا الموقع الاستراتيجي يُبعدها عن بؤر التوتر في أوروبا وآسيا.

علاوة على ذلك، فإن المساحة الشاسعة التي تشغلها الولايات المتحدة، والتي تفوق مساحة إنجلترا بأربعين ضعفًا، وتضم خمسين ولاية، تجعل التركيز على الشؤون الداخلية والتعرف على تاريخ وجغرافيا البلاد أولوية قصوى بالنسبة للأميركيين، مما يقلل من اهتمامهم بالعالم الخارجي والسفر إليه.

وعلى الرغم من هذه العوامل، تبنّت الولايات المتحدة نهجًا عولميًا في سياستها الخارجية منذ انتهاء الحرب العالمية الثانية. فبعد أن تمكنت من إلحاق الهزيمة باليابان وألمانيا، تبنت سياسة "احتواء" شاملة ضد الاتحاد السوفياتي آنذاك.

وفي تلك الحقبة، فرضت المصالح الاقتصادية الأميركية نفسها بقوة؛ فقد أصبح اعتماد الاقتصاد الأميركي على النفط، وتوسّع الشركات الأميركية، التي كانت تستحوذ على حصة كبيرة من الإنتاج العالمي، في الأسواق العالمية، حافزًا لا يمكن تجاهله لتبني سياسات ذات طابع عالمي.

وعقب انهيار الاتحاد السوفياتي، حلت "محاربة الإرهاب" محل "محاربة الشيوعية" كهدف رئيسي للسياسة الخارجية الأميركية. ففي أعقاب هجمات الحادي عشر من سبتمبر، شنّت إدارة جورج بوش الابن حروبًا في كل من العراق وأفغانستان.

وعلى الرغم من أن إدارة باراك أوباما اعتبرت أن غزوتي العراق وأفغانستان كانتا خطأً استراتيجيًا، إلا أنها استمرت في اتباع السياسات العولمية. ثم جاء ترامب، ورفع شعار "أميركا أولًا" خلال فترة رئاسته الأولى، لكنه لم يُحدث تغييرات جذرية في السياسات القائمة، ثم أتت إدارة جو بايدن لإحياء التحالف الغربي وتعزيزه، خاصة في ضوء العملية العسكرية الروسية في أوكرانيا.

فوضى في الداخل.. فوضى في العالم

يسعى ترامب اليوم إلى وقف الدعم الأميركي المقدم إلى أوكرانيا، ويعتمد خطابًا يميل إلى روسيا، بهدف تقويض التحالف الغربي، ووضع نهاية لدور الولايات المتحدة كحامٍ للنظام العالمي.

تتلاقى مواقف ترامب تجاه الصراعات الدائرة في أوكرانيا وغزة مع رؤيته القائمة على تمكين الطرف الأقوى على حساب إضعاف الطرف الأضعف. ففي غزة، يقترح تهجير الفلسطينيين قسرًا، وهو اقتراح لم تتجرأ إسرائيل نفسها على الإعلان عنه صراحة. وفي أوكرانيا، يتهم زيلينسكي بأنه "دكتاتور غير شعبي" وأنه هو من أشعل فتيل الحرب، وهي رواية تتردد حتى روسيا في تبنيها بشكل كامل.

الكل يعلم أن هذه المواقف تتعارض مع القانون الدولي. فالولايات المتحدة ذاتها وقّعت اتفاقًا مع روسيا يضمن سلامة الأراضي الأوكرانية بعد استقلالها، مقابل تخلي أوكرانيا عن ترسانتها النووية. ولكن مثل هذه الاتفاقيات لا تمثل لترامب قيمة تذكر، فهو لا يعترف إلا بمنطق القوة.

على المدى المنظور، يمتلك ترامب القدرة على تنفيذ أجندته، فالجمهوريون في الكونغرس، والقضاة المحافظون الذين يسيطرون على المحكمة العليا، لن يعترضوا طريق أي رئيس جمهوري جديد. ولكن، هل سيحقق ترامب النجاح على المدى البعيد؟ ثمة ثلاثة عوامل رئيسية تقلل من فرص نجاحه:

  • أولًا، وصل ترامب إلى السلطة بدعم نصف الناخبين فقط، وتشير استطلاعات الرأي إلى تراجع شعبيته إلى ما دون عتبة 50%. وتقوم سياساته الاقتصادية على ركيزتين أساسيتين: الأولى هي رفع الرسوم الجمركية في التجارة الدولية، والثانية هي ترحيل أعداد كبيرة من المهاجرين. هاتان السياستان ستفضيان حتمًا إلى ارتفاع الأسعار وتفاقم التضخم، بينما كان ترامب قد وصل إلى السلطة على أساس وعد بخفضهما. وعلى عكس بعض المجتمعات الأخرى، فإن الشعب الأميركي لا يتسامح مع أي تدهور اقتصادي.
  • ثانيًا، لا يمتلك ترامب حلفاء دوليين حقيقيين سوى روسيا وإسرائيل. فقد نجح في فترة قصيرة في إبعاد أقرب جيرانه، مثل كندا، وأساء إلى حلفائه الأوروبيين. وسيأتي هذا النفور من العلاقات الخارجية بتكلفة اقتصادية باهظة على الشركات الأميركية. فليس من المنطقي أن تستمر الولايات المتحدة في جني ثمار الاقتصاد العالمي، بينما تعمل في الوقت نفسه على تدمير النظام الذي يقوم عليه هذا الاقتصاد. ومن الأمثلة الواضحة على ذلك تراجع مبيعات شركة "تسلا" في أوروبا وانخفاض قيمة أسهمها خلال الشهر الماضي، وهي علامات مبكرة على بداية مسار انحداري اقتصادي.
  • ثالثًا، ينخرط ترامب في هذه المغامرات الخارجية بينما يعيش الداخل الأميركي حالة من الفوضى والاضطراب. فإيلون ماسك، الذي اختاره ترامب للإشراف على وكالة جديدة بحجة تقليل النفقات، يقوم بتسريح أعداد هائلة من الموظفين الحكوميين ويقوم بإهانة البيروقراطيين بشكل يومي تقريبًا، مما يخلق انطباعًا عامًا بأن إدارة ترامب تتبنى نهجًا تصادميًا على الصعيدين الداخلي والخارجي على حد سواء.

لا يزال من غير الواضح إلى أي مدى سينجح ترامب في إعادة تشكيل السياسة الأميركية، ولكن المؤكد أن النظام العالمي، الذي كانت الولايات المتحدة تقوده بلا منازع، قد اهتز بشدة على يد رئيسها الحالي. فلنستعد إذًا لمواجهة الفوضى العالمية الجديدة!

سياسة الخصوصية

© 2025 جميع الحقوق محفوظة